بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد:
أورد ابنُ الجوزي في صفة الصّفوة وابنُ النـّحاس عن رجل من الصّالحين اسمه أبو قدامة الشامي ..
وكان رجلاً قد حبـّب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرّة في الحرم المدني فسأله سائل فقال :
يا أبا قدامة أنت رجل قد حبـّب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو
فقال أبو قدامة : إنـّي محدثكم عن ذلك :
خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصدّ الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقـّة ( مدينةٍ في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي ، ووعظت النـّاس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله ، فلما جنّ عليّ الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلمـّا ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلما فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها ،
فقلت : ما تريدين ؟
قالت : أنت أبو قدامة ؟
قلت : نعم ،
قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية ،
فنظرت إلى الرّقعة فإذا فيها : إنـّك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي ،
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدّة شوقها إلى المغفرة والجنـّة .
فلمـّا أصبحنا خرجتُ أنا وأصحابي من الرّقـّة ، فلمـّا بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله ،
قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عنـّي وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلمـّا رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردّني خائباً ،
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك .
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟ قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي .
قلت : أعندك والدة ؟
قال : نعم ، قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنـّة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمـّي ؟ قلت : لا ،
قال : أمـّي هي صاحبة الوديعة ، قلت : أي وديعة ؟
قال : هي صاحبة الشـّكال ، قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشـّكال ؟؟
قلت : بلى ، قال : هي أمـّي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع ..
وإنـّها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولـّهم الدّبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله ، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنـّة ، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ
ثمّ ضمتني إلى صدرها ، ورفعت رأسها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي ، هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي ، وثمرةُ فؤادي ، سلـّمته إليك فقربه من أبيه ..
سألتك بالله ألاّ تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشـّهيد ابن الشـّهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرّمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سنـّي ..
قال أبو قدامة : فلمـّا سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه ، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً ...
ثمّ إنّ الغلام رأى في منامه :
قصراً يتلألأ أنواراً ، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذا جوار ٍ يرفعن السّتور ، وجوههنّ كالأقمار ، قالت له إحداهنّ :
تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنـّه الشـّمس ، لولا أنّ الله ثبـّت عليّ بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بوليّ الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي
فلما اقتربتُ منها قالت : لم يأن الأوان بعد .
وفي اليوم الثاني جالت الأبطال ، ورميت النـّبال ، وجرّدت السّيوف ، وتكسّرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل ..
واشتدّ علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ،
ثمّ انتهت المعركة فبحثتُ عن الغلام فسمعتُ صوتا ينادي ( عمـّي أبو قدامة)
فالتفتّ ُ إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام
وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه
فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسان
وفرّقت الأعضاء ، وكسّرت العظام ..
وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء
قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : ها أنا أبو قدامة .. ها أنا أبو قدامة ..
فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمع وصيتي
قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمـّه ، وأخذت طرف ثوبي أمسح الدّم عن وجهه
فقال : تمسح الدّم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدّم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحقّ بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرّقة ، ثمّ تبشـّر أمـّي بأن الله قد تقبـّل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإنـّي سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنـّة ، ..
ثمّ قال : يا عم إني أخاف ألاّ تصدّق أمـّي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدّم ، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وأن الموعد الجنـّة إن شاء الله ..
يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلت المنزل إلا استبشرت وفرحت ، ولا خرجت إلا بكت وحزنت ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وفجعت بمقتلي اليوم ، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر :
يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا ، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..
ثمّ تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عمّ صدقت الرؤيا وربّ الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها ..ثمّ انتفض وشهق شهقتين ، ثمّ مات
كنت أقرء أحد المواضيع فوجدت فيه هذه القصة
والسلام...